Omar Siki
نبيلة بنجدية
في طرقات المغرب، لا تحتاج إلى إذاعة، أو جريدة لتقرأ نبض الناس.
يكفيك أن ترفع عينيك خلف شاحنة، "تريبورتور"، أو حتى عربة يجرها بغل، لتقرأ حكايات موجزة، مفعمة بالألم والحكمة، الأمل والسخرية.
عبارات مكتوبة بخط يدوي بسيط أو منمق، ليست شعارات دعائية، بل رسائل تنبع من عمق التجربة، يخطها سائقون يحملون أحمالا ثقيلة، وقلوبا أثقل.
في طريقي إلى العمل، استوقفتني عبارة على ظهر عربة متواضعة:
"ابتسم، فلا أحد يهتم بما تشعر".
بدا لي وقعها غريبا للوهلة الأولى، لكن سرعان ما أدركت أنها واحدة من عشرات التعليقات التي تزين مؤخرات العربات على طول الطرق المغربية، تعليقات ليست للزينة، بل هي تعبير حقيقي عن حالات إنسانية عابرة للطريق.
عبارات مثل:
"ماحدك حاضيني وربي عاطيني"، "بغيتي الدنيا تعطيك قيمة، تهلا فالميمة"، "إلى ضوبلتيني عرف الواليد حدايا"، "عيش بعزك، أولى عيط للديباناح يهزك".
ليست مجرد جمل، بل شذرات من يوميات السائقين، رسائل مختزلة إلى العالم، أو ربما لأنفسهم، تكتب بدهان أبيض على حديد أسود، لتقرأ على عجل، في طرق لا تعرف الوقوف.
يقول الحاج مصطفى، سائق شاحنة منذ أكثر من ثلاثين سنة:
"كتبت على الشاحنة ديالي: خلي الأيام تدور على هاد القلب المغدور، حيث حسيت فعلا أن الدنيا دارت بيا. قلبي مازال فيه غصة من نهار فقت و لقيت مراتي هربات وخلاتني مع ثلاثة ديال الوليدات.
كنت كنهز السلعة من طنجة للعيون، والقلب كيحترق من الشمتة.
واحد النهار فآسفي، وقفت نتعشى، جا عندي راجل كبير، قرا الجملة وبكى، قالي: حتى أنا مراتي مشات، والله حتى كتقتلني الفقصة...".
قصص مثل قصة الحاج مصطفى تتكرر بصيغ مختلفة، لكن الألم واحد، والأمل كذلك.
عبد الكبير، شاب في الخامسة والثلاثين، يروي قصته، مشيرا إلى الجملة التي كتبها على شاحنته:
"اللي درقك بحيط، درقو بخيط".
كنت كنحب بنت جيرانا، عشر سنين وأنا باغي نخطبها، وكل مرة كتقول: ماشي دابا. منين جمعت راسي وبغيت نجي، لقيتها دارت عقد مع واحد الموظف. صافي، ضربني الضو. الطريق ولات العلاج، وفين كتبت ديك الجملة ولى دفتر الذكريات ديالي".
ورغم مرارة التجارب، فإن الكثير من هذه التعليقات تنبض بالفلسفة الشعبية، وتختزن نظرة متأملة للواقع:
"عيش و ماتحضيش"، "عين الحسود فيها عود"، "العمل عبادة و الحضية لماذا"، "السياقة فن ماشي عن عن"، "آش خسرتي إلى صبرتي"، "الكساب يكسب، والحضاي يحسب"، "إلى تبعوك العرب، حط الكونطاكط وهرب"، "إلى كثرو العديان، عرف راسك غادي مزيان"، "ماشي سوقك... سوق الخضرة".
يرى الكثيرون أن هذه الظاهرة تمثل تعبيرا شعبيا أصيلا عن الذات، وأن هذه "الرسائل الحديدية" تشكل وسيلة للتنفيس، وللتواصل غير المباشر مع مجتمع عابر وسريع. إنها نوع من "الأدب الطرقي" الصامت، فيه العتاب، الحب، الغصة، والفكاهة.
بين حمولة ثقيلة وأميال لا تنتهي، تستمر الشاحنات المغربية في التنقل، ويستمر معها سائقوها في كتابة حياتهم، حرفا حرفا، على الصفائح المعدنية الخلفية.
إنها جريدة يومية لا توزع في الأكشاك، بل تقرأها عيون العابرين على الطرقات في صمت.